اللهم ربنا لك الحمد بما خلقتنا ورزقتنا وهديتنا وعلمتنا , وأنقذتنا وفرجت عنا .
لك الحمد بالإيمان , ولك الحمد بالإسلام , ولك الحمد بالقرآن , ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة .
والصلاة والسلام على خير الأنام
إن نعم الله جلا جلاله على عباده كثيرة جداً , وأجل هذه النعم :
نعمة الهداية إلى الإسلام وأعْظِمْ بها من نعمة ـ
فأنت يا إبن الإسلام خصك الله بنعم خاصة دون غيرك , أعظمها
أن هداك للدين الحق , وشرح له صدرك دون جهد منك ولا أذى
ولا بلاء , هداك الله على دينه القويم , وقد أضل عنه قوماً آخرين
, وحتى تعرف قدر هذه النعمة تخيٌل نفسك وقد سُقْت مع الناس
للمحشر والفصل بين العباد , ثم انظر إلى النار وهي تزفر زفرات
الغيظ والحنق على العصاة والكافرين , وهم يحاولون اتقاء حرها ...
ثم استمع إليهم وهم ينطقون فيها ويصرخون :
( َربٌنَاٌ أَخِْرجْناَ مِهْناَ فَإِنْ عُدٌنَا فَإِنٌا َظاِلمُونَ )
سورة المؤمنون , آية رقم {107}.
عندها ماذا سيكون شعورك , لاشك أنك ستقول :
( اٌلحَمدُ ِللٌِه اْلٌذِى هَدَانا لِهَذاَ وَمَا كُنٌا لِنَهْتَدِيٌ لوََْلآ أَن هدانَا الله )
سورة الأعراف , آية رقم {43}.
قال بكر بن عبد الله المزني رحمه الله :
" من كان مسلماً , وبدنه في عافيه , فقد اجتمع عليه سيد نعيم
الدنيا , وسيد نعيم الآخرة ؛ لأن سيد نعيم الدنيا هوا العافية , وسيد نعيم الآخرة هو الإسلام "0
ومنها : أن جعل بلادك بلاد الإسلام بهذا الدين أمناً وأماناً يُتخطف
الناس من حولنا , وفجر لنا كنوزاً فأخرجت من الذهب أصفره
وأحمره وأسوده , وجعله الله في الأخير وقوداً يسٌير دواب الناس
فتحملهم في الأرض والبحر والجو , بل والأعجب من ذلك منه
كساءً وأواني وآلات يعجز الإنسان عن عدها , وما كان الناس
ليهتدوا إلى ذلك لولا أن هداهم الله إليه , فسبحان ذي الفضل والنعم 0
ومنها أن الناس جاؤوا إلى بلاد المسلمين من كل فج عميق ليشهدوا
منافع لهم دنيوية وأخروية , فسخر الله لنا في بلادنا هذه من
أصناف البشر وألوانهم ما لم يكن في الحسبان إدراكه 0
ومعلوم أن النعم من الله جلا جلاله , فإذا كان الأمر كذلك ,
فإن على العبد أن يحرص على دوام هذه النعمة ودوام النعم لا
يكون إلا بنعمة أخرى , وهي نعمة ( الشكر )
قال الشو كاني رحمه الله في فتح القدير ( 3|98) والسيوطي في الدر المنثور (5|7) : " أخرج ابن أبي حاتم عن
الربيع في قوله : ( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ) .
ومن ُألهم الشكر لم يحرم الزيادة .
قال ابن القيم رحمه الله :
( سمى الله نفسه " شاكرا " و" شكوراً " وسمى الشاكرين بهذين الاسمين , فأعطاهم من وصفه , وسماهم باسمه , وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلاً )
تهذيب مدارج السالكين 2 / 610
تجديد الشكر لله جلا جلاله على النعمة , وعلى تمكينه لنا على
شكرها , ولذلك ُأثر عن داواد عليه السلام أنه قال :
يا رب كيف أشكرك ؟ وشكري لك نعمة مجدّدة منك علي ! فقال : ( الآن شكرتني يا داود )
انظر تفسير القرطبي عند قوله تعالى في سورة { إبراهيم }
( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) آية {34}.
أن نؤمن أن الله جلا جلاله هوا المنعم المتفضل ,
وأن نعلم أنه الذي يستحق أن يُعبد وأن يشكر ويُحمد ,
ولذلك جاء في أثر إسرائيلي : أن موسى عليه السلام قال : "
يـــــا رب خلقت آدم بيدك , ونفخت فيه من روحك ,
وأسجد ت له ملائكتك , وعلمته أسماء كل شيئ , وفعلت
وفعلت . فكيف أطاق شكرك ؟ قال الله عز وجل :
علم ذلك مني , فكانت معرفته بذلك شكرً ليٌ , وما من نعمة على
الخلق من أهل السموات والأرض
إلا وبدايتها من الله سبحانه وتعالى .
قوله ( الحمد لله ) , وفي حديث أنس بن مَالِكٍ رضي الله عنه
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ,
أو يشرب الشربة فيحمده عليها )
رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والإستغفار .
وروى عن بعض التابعين ـ رحمهم الله ـ أنه قال :
( من تظاهرت عليه النعم فليكثرٌ الحمد لله ،." لان " الشكر
لا يكون إلا بالثناء على المحسن بذكر إحسانه )
مِدارج السالكين 2/61, تنبيه الغافلين للسمر قندي ص 230.
وقال عبد ابن أبي نوح : قال لي رجل على بعض السواحل :
كم عاملته تبارك اسمه بما يكره فعاملك بما تحب ؟
قلت : ما أحصي ذلك كثيرة ,
قال : فهل قصدت إليه في أمر كربك فخذلك ؟
قلت : لا والله . ولكنه أحسن إليٌ وأعانني ,
قال : فهل سألته فلم يعطِكه ؟
قلت : وهل منعني شيئاً سألته ؟ ما سألته شيئاً قط إلا أعطاني
ولا استعنت به إلا أعانني ,
قال : أرأيت لو أن بعض بني آدم فعل بك بعض هذه الخلال
ما كان جزاؤه عندك ؟ قلت :
ما كنت أقدر له مكافأة ولا جزاء , قال :
" فربك أحق وأحرى أن تدأب نفسك له في أداء شكره وهو
المحسن قديماً وحديثاً إليك , والله لشكره أيسر من مكافاة عباده 00
قال ابن أبي الدنيا رحمه الله : أنشدني محمود الوراق:
كتاب الشكر لابن أبي الدنيا ص 104ط1.
إذا كان شكري نعمة الله نعمة
عليّ له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله
وإن طالت الأيام واتصل العمر
إذا مسّ بالسراء عمّ سرورها
وإن مسّ بالضراء أعقبها الأجر
وما منهما إلا له فيه منة
تضيق بها الوهام والبر والبحر
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
ثم إن هناك نعم دقيقة لا يتفطن لها إلا من منّ الله عليه بالبصيرة
منها : ما أشار إليه شريح رحمه الله , قال : " ما أصيب عبد
بمصيبة إلا كان لله عليه منها ثلاث نعم , أولها : أن لا تكون في
دينه , ثانيها : أن لا تكون أعظم مما كانت , ثالثها : أنها لابد كانت
, فقد كانت . عدة الصابرين ص 100.
ومنها : أن من أراد أن يعرف نعمة الله عليه بالصحة فلينظر إلى
المصابين بالأمراض وفقد الأعضاء ,
ليذهب إلى المستشفيات ليرى كم من مريض يئن ؟ وجريح يثخن
بالجراح ؟ ويرى كم من فاقد للسمع أو البصر , أو هما جميعاً ؟
وكم من مسكين يتمنى هجة نوم , أو هدأة من وجع ؟ حينها يعرف
قدر نعمة الله عليه , وبضدها تتميز الأشياء .
إن تلف عضوا واحد من هذه الأعضاء لا يعوضه ملايين الأموال ,
جاء رجل إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله , فقال له يونس :
أيسرّك ببصرك هذه مائة ألف درهم ؟ قال الرجل : لا .
قال : فبيديك مائة ألف ؟ قال : لا .
قال فبرجلك مائة ألف ؟ قال : لا . قال :
فذكّره نعم الله عليه ,
فقال يونس : أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكوا الحاجة 0
ومنها : ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن محصن رضي الله عنه , وفيه : " من أصبح منكم آمناً في سربه , معافى في جسده , عنده قوت يومه , فكأنما حيزت له الدنيا " 0رواه الترميذي من حديث عبيد الله بن محصن في الزهد حديث رقم 34, وكذلك أخرجه ابن ماجه في الزهد رقم 6.
إنها نعمة الأمن والعافية والرزق , وهي من أعظم نعم الله على
عباده فيصبح الإنسان آمناً على دينه ونفسه وماله وعرضه ,
يعيش في طمأنينة وسعادة يخرج من بيته لا يخاف على نفسه وأهله مما يجعله مطمئناً في عمله فتزيد إنتاجيته مما ينعكس على إنتاجية
البلد بشكل عام . فالأمن سبب للازدهار الاقتصادي , ودافع
لأصحاب الأموال باستثمار أموالهم في هذا البلد الآمن , وانظر
إلى البلدان التي اختل أمنها وانتشر فيها الذعر والخوف بسبب
أنواع الجرائم من قتل وسرقة واختطاف وتفجير وإرهاب , وتأمل
كيف انهار اقتصادها , وسقطت عملاتها بعد أن كانت في القمة ,
مما أدى إلى فقرها وتغرب مواطنوها بحثاً عن لقمة العيش , ولو
شكروا لكان خيراً لهم وأقوم , ولكنه الكفر الذي يمحق البركات ويزيل النعم 0
قال بعض السلف في خطبته يوم عيد : أصبحتم زهراً وأصبح
الناس غبراً , أصبح الناس ينسجون وأنتم تلبسون , وأصبح الناس
يعطون وانتم تأخذون , وأصبح الناس ينتجون وأنتم تركبون ,
وأصبح الناس يزرعون وأنتم تأكلون , فبكى وأبكاهم 0
ومنها : ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم :
ورتب عليه الأجر الكثير مع يسره وسهولته , كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " كل سلامي من الناس عليه صدقة , كل يوم تطلع فيه الشمس يَعدِلُ بين اثنين صدقة , وتعين الرجل على دابته فيُحمل عليها أو يرفع له عليها متاعه صدقة , والكلمة الطيبة صدقة , وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة , وتميط الأذى عن الطريق صدقه " أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير حديث رقم 2989ـ باب من أخذ بالركاب ونحوه .
والسلامى هي العظم . وفي جسم ابن آدم ثلاثمائة وستون عظماً يظهر منها مئتان وخمسة وستون عظماً والباقية صغار لا تظهر.
قال ابن رجب رحمه الله : " ومعنى الحديث :
أن تركيب هذه العظام وسلامتها من أعظم نعم الله على عبده,
فيحتاج كل عظم منها إلى صدقة يتصدق ابن آدم عنه ؛ ليكون ذلك شكراً لهذه النعمة , ولذلك قال مجاهد رحمه الله هذه نعم من الله متظاهرة يقررك بها كيما تشكر "
جامع العلوم والحكم 2/ 74ـ 79.
ولما كان ذلك يستعدي صدقات كثيرة بعدد العظام وقد لا يستطيع العبد الوفاء بها سهل الله له طريق الخير وفتح له أبواب البر .
فجعل لكل عمل من الأعمال التي ذكرت في الحديث صدقة , ثم قال صلى الله عليه وسلم :
" ويجزئ عن ذلك كله ركعتان من الضحى يركعهما " ,
وهذا التخفيف من الله نعمة أخرى تحتاج إلى شكر 0
فهلاُ قلت ( الحمد لله ) خالصاً من قلبك فإنه جلا جلاله رضي من العباد بالحمد شكراً 0
وأسأله جلا جلاله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يمنحنا الفقه في الدين وأن يوفقنا وإياكم لشكر نعمة الله سبحانه والاستعانة بها على طاعته ونفع عباده إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم :
أتْعَسُ بها جهد من بغي عليّ , وأكفٌ بها عدوان من اعتدى عليّ ,
وأُضْعِفُ بها كيد من كادني , وأزيل بها مكر من مكر بها عليّ ,
وأُبطل بها سعي من سعى عليّ من جميع خلق الله .
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم :
إذا أُدخِلتُ قبري فريداً وحيداً خالياً بعملي , وأستعين بها على محشري إذا نُشرت لي صحيفتي , ورأيت ذنوبي وخطاياي , وطال في القيامة وقوفي واشتد عطشي , وأُثقُل بها الميزان عند الجزاء إذا اشتد خوفي , وأجوز بها الصراط مع الأولياء , وأثبّت بها قدمي .
لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم :
أستقر بها في دار القرار مع الأبرار , عدد ما قالها وما يقولها القائلون , منذ أول الدهر إلى آخره , عدد ما احصاه كتاب الله , وأحاط به علمه , وأضعاف ذلك , أضعافاً مضاعفة , وكل ضعف يتضاعف أضعاف ذلك أضعافاً مضاعفة , أبد الأبد , ومنتهى العدد بلا أمد , عدد لا يحصيه إلا هو , ولا يحيط به إلا علمه , ولا حول ولا قوة إلا بالله 0
..(( سبحانك اللهم وبحمدك .. أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك ))..
كتاب الورد المصفى للملك عبد العزيز آل سعود (رحمه الله ).